سعدي والنواب والرموز الفلسطينية
تساؤلات حول الحذف والتغيير
مدخل
يلاحظ من يتابع قصائد الشاعرين العراقيين يوسف سعدي ومظفر النواب أنهما خصّا موضوع فلسطين بعشرات القصائد، وقد يذهب من لا يعرف جنسية الشاعرين وموطن ولادتهما، إلى أنهما قد يكونان فلسطينيين، وإن كانت بعض قصائدهما تعبر عن انتمائهما إلى العراق وعن صلتهما الوثيقة به، على الرغم من أنهما يقيمان منذ أمد طويل في المنفى.
وإذا كانت وزارة الثقافة الفلسطينية قد وزعت قصائد سعدي يوسف التي صدرت في كتاب عنوانه " الديوان الفلسطيني 1967-1993 "، وقد صدر الكتاب في عمان، في عام1996، عن اللجنة الشعبية الأدبية لدعم الانتفاضة، فإن منشورات حطين في القدس قد أصدرت كراساً لمظفر النواب تحت عنوان" عرس الانتفاضة"، وهكذا تيسر للقارئ في فلسطين قراءة قصائد هذين التي مسّت موضوع فلسطين.
ولئن كان هذان الشاعران حين أصدرا أعمالهما الكاملة لم يتخليا عن مواقفهما،وادرجا اكثر ما كتبا في الموضوع الفلسطيني، في طبعات الأعمال الكاملة، إلا أن من يتابع أشعارهما في مكان نشرها الأول، ويحاول أن يقرأها في طبعة الأعمال الكاملة، يلحظ بعض التغيير والحذف، وهذا يحدو بالدارس إلى البحث عن الأسباب وإلى إثارة التساؤلات التي دفعت بهذين الشاعرين إلى التغيير أو إلى عدم إدراج بعض مقاطع في أعمالهما الكاملة.
أشير، ابتداءً، إلى أن ظاهرة الحذف والتغيير في الشعر هي ظاهرة قديمة معروفة في الشعر العربي، وقد كان بعض الشعراء لا يذيع قصائده إلا بعد أن تكتمل ويرضى هو عن مستواها،وعرف هؤلاء بأنهم أصحاب الصنعة وأصحاب الحوليات، حيث كانوا ينتظرون عاماً كاملاً، بعد البدء بكتابة القصيدة، ليقرؤوها على مسامع الآخرين، وقد قال أحد هؤلاء في ذلك.
نثقفها حتى تلين متونها فيقصر عنها كل ما يتمثل
ولئن كان بعض الشعراء يفعلون هذا لكي يتم اكتمال النص، ولكي يخرج في أحلى زينة له، فإن التغيير كان يتم أحياناً من المصغين أو من الرواة أنفسهم، وهذا ما جعل للنص الواحد أحياناً، غير رواية، ويستطيع المرءُ أن ينظر في لامية العرب للشنفري ليلاحظ صيغها العديدة، وهو ما فعله محمد بديع شريف الذي أصدر اللامية وشرحها وأورد في كتابه رواياتها العديدة.
ولم يختلف الأمر في العصر الحديث، إذ أخذ بعض الشعراء العرب المعاصرين مثل محمود درويش وأدونيس وسميح القاسم وفهد العسكر، أخذوا يعيدون النظر في قصائدهم ومجموعاتهم حين يعيدون طباعتها من جديد وقد التفت الدارسون إلى هذه الظاهرة وكتبوا فيها، ومن الدارسين يوسف نوفل وحاتم الصكر وأنا وربما هناك دارسون آخرون. تناول الأول قصيدة " البلبل " لفهد العسكر، وتناول الثاني أدونيس، وذلك في كتابه " كتابة الذات: دراسات في وقائعية الشعر " 1994، وتناولت أنا محمود شقير ومحمود درويش، ولسوف تظهر دراستي في كتاب عنوانه " جدل الشعر والسياسية والذائقة:دراسة في ظاهرة الحذف والتغيير في أشعار محمود درويش ".
وليست ظاهرة الحذف والتغيير مقتصرة على الأدب العربي، فقد عرفها أيضاً الأدب العالمي، بل أن باريس، أم المذاهب والتيارات والصراعات الأدبية، عرفت منهجاً نقدياً اسمه المنهج التكويني في دراسة الأدب، وهو منهج يدرس النص الأدبي منذ لحظة تكونه في ذهن صاحبه حتى شكله الأخير، وقد درس بعض النقاد الفرنسيين نصوص القاص ( بلزاك ) اعتماداً على هذا المنهج.
ويعد هذا المنهج ذا صلة بمناهج نقدية أخرى منها المنهج الاجتماعي والمنهج النفسي وعلم اللسانيات، إذ أن الحذف والتغيير والإضافة قد يكون لأسباب سياسية اجتماعية، وقد يكون لأسباب اقتصادية، كما قد يظهر لنا حالة الشاعر النفسية في أثناء الصياغة الأولى والصياغات التالية اللاحقة، كما قد يبرز لنا التشكيلات اللغوية للنص والتغييرات التي أجراها الأديب، إذ قد يكتشف خللاً لغوياً هنا، وضعفاً تركيبياً هناك وتعبيراً فظاً في هذه الجملة وآخر مباشراً لا يليق بالنص.
قد يغير الكاتب مواقفه السياسية أو الفكرية، وهكذا قد يجد نفسه أمام كتابات تتعارض ومواقفه الجديدة، فيلجأ إلى حذف وتغيير. وقد يعرض عليه ناشر ما عرضاً ما ينشر له، من جديد، أعماله، ولكنه -أي الناشر- يطلب من الكاتب أن يحذف بعض العبارات حتى يتمكن من طباعة الكتاب وتوزيعه في أماكن عديدة-نستطيع مثلاً أن نعرف لماذا خلت طبعات أبي سلمي العديدة من قصيدة "لهب القصيد"، ان إدراج القصيدة في الديوان، في زمن مضى، لن يجعل الديوان يُسَوَّقُ في العالم العربي، وهكذا سيجد الناشر آلاف النسخ في المخازن.
وقد ينظر الشاعر في الصياغة الأولى لنصه،فيجد أنه كان منفعلاً متسرعاً، فيتخلص من العبارات التي تظهر عليها سمة الانفعال والتسرع. وقد ينظر في نضجه، إلى ما كتبه يوم كان شاباً يافعاً فيرى فيما كتبه حماقات يجدر أن يتخلص منها.
وقد يقرأ الكاتب مقالات النقاد ودراساتهم، وقد يتأثر بما كتبوا مقتنعاً بما ذهبوا إليه، فيأخذ برأيهم، وقد..وقد..وقد.. كان أدونيس يقول إنه يجري تعديلاً على قصائده، حين يعيد طباعة أعماله، لكي يمنح النص "مزيداً من التوهج..من التعمق والتأصيل". فما هي الأسباب التي حدت بسعدي يوسف ومظفر النواب إلى إجراء بعض التغييرات على بعض قصائدهما،وتحديداً تلك التي مسّت رموزاً فلسطينية؟ إذا كانا هما، لا الناشر، من فعل ذلك.
سعدي يوسف
كتب سـعدي يوسف في 25/1/1983 قصيدة عنوانها "إلى ياسر عرفات " نشرها ابتداءً، في مجلة " الكرمل " التي يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش، وهي مجلة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وكانت تصدر في قبرص، بعد أن صدرت أعدادها الأولى في بيروت، وواصلت صدورها، بعد عودة الشاعر درويش إلى رام الله، نشر، سعدي قصيدته في العدد السابع الذي خصص لنصوص تناولت تجربة المقاومة في حصار 1982، وأعاد نشرها في المجلد الثاني من أعماله الكاملة، الصادرة عن دار العودة في بيروت في 1/7/1988، وأدرجت ضمن المجموعة الخامسة في هذا المجلد " خذ وردة الثلج خذ القيروانية " تحت عنوان " الوردة "، وقد تصدرت المجموعة ولم يتخل سعدي عن القصيدة يوم اختار أعماله التي كتبها في القضية الفلسطينية، إذ أدرجها في الديوان الفلسطيني أيضاً تحت عنوان الوردة ونظراً لعدم توفر " خذ وردة الثلج، خذ القيروانية " في طبعته المنفصلة الأولى بين يدي، فإنني لا أدري العنوان الذي أدرجت القصيدة تحته، ويلحظ المرء أن سعدي في أعماله الكاملة وفي الديوان الفلسطيني ثبت تاريخ كتابة القصيدة ، وهذا ما لم يظهر في مجلة " الكرمل "، والسؤال المهم هو: لماذا غيّر الشاعر العنوان واستبدله بآخر دون أن يشير إلى ذلك؟ ولماذا، مثلاً، حين اختار عنواناً جديداً لم يُبق على الإهداء الذي كان بمثابة العنوان؟
من المؤكد أن المرء يستطيع أن يقدم إجابات قد يلامس بعضها قصد الشاعر وقد يّحمل بعضها الشاعر ما لم يكن يرمي إليه.
أيكون الشاعر رأى في العنوان الأول عنواناً غير شاعري، وأن عنوان الوردة ذو دلالة شاعرية؟ أيكون الشاعر الشيوعي آثر أن يعود إلى شيوعيته، وفضل ألا يمدح أشخاصاً بالاسم؟(هذا إذا غضضنا الطرف عن شعراء مدحوا لينين وماركس ثم تخلوا عن قصائدهم مثل سميح القاسم). أيكون السبب وراء ذلك تغيير الشاعر موقفه من الأخ ياسر عرفات؟ وتبقى هذه مجرد تساؤلات والسؤال الذي يُثار الآن هو ما تأثير هذا التغيير على فهم النص؟
حين يقرأ النص، من خلال عنوانه الأول، يحدد القارىء المخاطب، ويعرف موقف الأول من الثاني، ومكانة الثاني لدى الأول. يبدو ياسر عرفات في النص موضع إعجاب سعدي يوسف، وهذا الإعجاب يصل إلى ما يصل إليه العشاق: إن الوردة التي أحبها سعدي ستظل بيدي ياسر عرفات، وكذلك الأغاني التي غنّاها مغني الطرقات/الشاعر.
والوردة التي حاولها المخاطب/سعدي يوسف، حاولها حتى بلغ مواقع الثوار سوف تبقى في يدي ياسر عرفات. ويبدو أبو عمار في النص ذا وردة تذوي لأن الرمال تدور حوله. الثورة هنا محاصرة بالثلوج، والأبناء هنا يضطربون في الآفاق، والسماء تضيق، وينتظر الشاعر من أبي عمار، وهو الملك المتوج بالشظية، أن يقول ما يقول. وأبو عمار، هكذا يراه أنا المتكلم، يخبىء تحت الجلد أشياء وأشياء، وينوي، إذا ما اسودّت الآفاق، وإذا ما انقطعت به الطرقات، ينوي ما يلي:
تذهب للبداية من نهايتها
وتقول للعشاق: هذه وردتي الأولى
لنضفرها على خصلات قنبلة
لندخل في النهاية
هذه الصورة التي يرسمها سعدي لياسر عرفات، تبدو من خلال العنوان الأول خاصة بياسر عرفات الذي صمد في بيروت، في صيف 1982، مع المقاتلين. ولكن الصورة، حين تغير العنوان، غدت لإنسان ثوري، قد يكون أبا عمار الذي قاتل في بيروت، وقد يكون أي مناضل يناضل لأجل الفقراء، والحق إن الأنت كانت محددة بشخص محدد ولكنها انتقلت من الخاص إلى العام.
وليس هناك من شك في أن قارىء النص الذي لا يعرف أن القصيدة كانت مهداة إلى ياسر عرفات سيبحث عن المخاطب، أما المخاطب فهو الشاعر، وقد يكون القارىء في لحظة تشابهه مع الشاعر، يوم كتب القصيدة إذا كان معجباً بإنسان ثوري.
حقاً إن ذكر تاريخ كتابة القصيدة يحيلنا إلى أحداث الثمانينيات، وأن دارس الأدب دراسة اجتماعية سيبحث عن الشخص المقصود لأنه يدرك أن هناك محركاً للقول، إلا أن الشاعر في اختياره عنواناً آخر صَعَّبَ ذلكَ على القارىء والدارس معاً؟ ولو لم يدرج نصه في الديوان الفلسطيني لقلنا أنه غيّر موقفه من أبي عمار، أما وقد أدرجه فإن قراءتها في الديوان الفلسطيني ستقول لنا إن المخاطَب هنا هو الفلسطيني المكافح المناضل الذي لا ييأس، وهو هنا أبو عمار في الثمانينيات ،وهو هنا أي فدائي فلسطيني.
مظفر النواب
تبدو أشعار مظفر النواب أكثر الأشعار العربية الحديثة القابلة للقراءة قراءة تكوينية، وذلك لأسباب عديدة. لقد أصغى الناس إلى مظفر النواب قبل أن يقرأوا أشعاره، وقد ألقى أشعاره في غير مكان، وكان في أثناء الإلقاء يغير ويبدل، وقد أعتمد كثير من دارسيه على قصائده كما قرأها وسجلها على أشرطة (الكاسيت )، عدا أن غير جهة اجتهدت وطبعت له مجموعات شعرية، وقد أخرجتها، مثل الدارسين، كما أصغت إليها. وهكذا نجد غير جهة أسهمت في إخراج قصائده بصيغ عديدة: الشاعر وحالات الإلقاء، والدارس الذي اعتمد على النص مسموعاً كما هو الحال في دراسة عبد اللطيف عقل التي نشرها،في عام 1976، في مجلة البيادر، في رام الله، والناشر الذي أصغى إلى أشرطة الشاعر ففرغها ونشرها.
ولقد توقفت شخصياً في كتابي " الصوت والصدى: مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة " ( نابلس 1999، القاهرة، مكتبة مدبولي،2000 ) أمام قصيدة " بّحار البحارين " في صيغتيها، صيغتها في مجموعة " أربع قصائد " الصادرة في رام الله عن دار العامل في عام 1977، وصيغتها في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الصادرة في لندن عن دار قنبر في عام 1997، وتصلح أكثر قصائد النواب لأن تدرس وفق الطريقة التي درست بها القصيدة المذكورة، وربما لجأ الدارس أيضاً إلى توظيف الأشرطة التي يلقي فيها الشاعر قصائده ليلاحظ اختلافات أخرى.
ويتساءل المرء، وهو يقرأ أشعار مظفر النواب في طبعاتها المختلفة، يتساءل عن تلك الطبعات التي اشرف هو شخصياً عليها، وتلك التي لم يشرف عليها، ولربما يخص بالسؤال الأعمال الكاملة الصادرة عام 1996. ومن كان تابع مجموعات الشاعر الصادرة من قبل، يلاحظ أن الأعمال الكاملة لا تضم قصائد ظهرت، من قبل، أو أنه يلاحظ أنها لم تظهر كاملة. ولسوف أقتصر هنا على قصيدة واحدة هي قصيدة " عرس الانتفاضة" تاركاً أمر القصائد الأخرى لدارسين آخرين أو لدراسات لاحقة.
كما ذكرت، ابتداءً، صدرت " عرس الانتفاضة " عن منشورات حطين في القدس دون تاريخ. وقد تشكلت القصيدة التي أُدْرِجَ تحت عنوانها المذكور مفردةُ يوميات، تشكلت من خمسة مقاطع هي:
1- كحل الأرض - دُفنوا أحياء في مدخل نابلس.
2- ربّ الحجر.
3- ناره.
4- التواطؤ.. " الشهيد أبو جهاد".
5- " وأغلق التحقيق".
أما في الأعمال الكاملة فقد كان عنوانها " يوميات عرس الانتفاضة"، وتكونت من المقطعين الأول والثاني، دون ترقيم فيما لم يظهر المقطع الثالث والمقطع الرابع والمقطع الخامس. وأشير إلى أن هناك خللاً في طبعة الأعمال الكاملة تمثل في تكرار قصيدة " إلى الضابط الشهيد ابن مصر العظيمة الذي فجر إحدى الطائرات الأمريكية ومزقته بعدئذ زخات الرصاص" حيث ظهرت هذه في الصفحة الثالثة والخمسين، ثم تكرر ظهورها في الصفحة الثانية والخمسين بعد الخمسمائة.
ويلاحظ المرءُ، وهو يقارن المقطعين الأول والثاني من " يوميات عرس الانتفاضة"، تغيراً في مواضع كثيرة، تغيراً واضحاً وضوحاً بارزاً، بالإضافة إلى عدم ظهور المقاطع الثلاثة الأخيرة التي طبعت في طبعة حطين/ القدس.
ويتمحور المقطع الثالث، كما المقطعان الأول والثاني، حول فتية الحجارة، إنه يتممهما. أما المقطعان الرابع والخامس فيخص مظفر النواب بهما الشهيد خليل الوزير " أبا جهاد ". ولو افترضنا جدلاً أن الشاعر تراجع عن موقفه من أبي جهاد، فإننا نتساءل: لماذا لم يدرج المقطع الثالث الذي يتمّم المقطعين الأول والثاني في طبعة الأعمال الكاملة؟
ونستطيع القول إن المقاطع الخمسة يتمم بعضها بعضاً، فهي وإن كانت يوميات، إلا أن ثمة رابطاً بينها، حيث يستطيع المرء أن ينظر إليها على أنها قصيدة فيها قدر من التناسق.
يأتي مظفر في المقطع الأول على الحادثة المشهورة التي وقعت على مدخل مدينة نابلس في الانتفاضة الأولى، يوم حاول الجنود الإسرائيليون دفن شباب من قرية سالم أحياءً. يحدد الشاعر المكان " الجريمة تمت بمدخل نابلس" ويبرز تصوره لليهود " ولد أفاعي الشتات " و "جموع الأفاعي الدميمة "، ويأتي أيضاً على فتية الحجارة " لهم حجر متقن فتية العرب "، ولا يغفل تحديد زمان حدوث الجريمة: "والدموع المباركة الزرق/ كانت تضيء البيوت/ أمام الغروب العظيم".
ويخاطب الشاعر، في المقطع الثاني، شباب الحجارة، ويبرز لهم صورة جميلة: " من أين هذي الرشاقة للقدر الضخم"، ويرى أنهم، بمقلاعهم يذللون ظهر الزمان، وأن لا شمس صرفاً كوجه ضارب الحجارة. إن رامي الحجارة يملك كل الجحيم وأيضاً كل حنان القمر. ورامي الحجارة يختلف عما عليه الوضع في العاللم العربي. إنه النقيض للتردي والحضيض، وهو الثورة في زمن التآمر، هكذا يخاطب النواب فتية الحجارة ولنلاحظ:
لا تحدق
كما لوزة مّرة في الأعالي
فهذي الزرائب مكتظة بالركوب على بعضنا
والحضيض له كل يوم
حضيض جديد
وثور بقرنٍ وحيدٍ
تدر عليه البلاد
وفي رأسه معمل السمادّ
إرْمِ
أيقظ حجار الجحيم
تآمرهم ضد وعي الحجارة
لا يغتفر
ويخصص مظفر المقطع الثالث لفتى يعجن الخبز ويخبزه، إنه فتى الخبز، لقد قدح هذا النارَ للفرن من قلبه، وكانت رائحة الخبز تفتح بابَ اجتهاده، ومن هنا كان مزدهراً بالعجين. ولأنه كان مشغولاً بهموم الناس، فقد كان عليه أن يذهب في المساء للاجتماع المصغر للأرض، لكن:
رفض الخبز ينضج..!!
حين يأتي يهود الجريمة لا ينضج الخبز
يذوي العجين
تكفّ الخميرة
والكل ينضمُ للنار
وهكذا ينضم لنارٍ أخرى غير نار الفرن، ويوقد ناراً أخرى غير نار الفرن، ولهذا مزّقوا جسده، إلا ناره، هكذا يرى مظفر، سوف تبقى على كل خبز إلى ساعة الانتقام.." مهمته النار.. وهي تواصل من بعده".
يخصص الشاعر المقطع الرابع من اليوميات لأبي جهاد، ويرسم مظفر صورة إيجابية، فأبو جهاد وإن كان في تونس، إلا أنه غير بعيد عن قلب الحدث، ففلسطين زهرته الخالدة، ولأنها كذلك فقد أفرغ أعداؤه في جسده غدرهم والرصاص. والأعداء كثر، إنهم يأتون من البحر، ولكن إحدى السفارات الأجنبية تساعدهم. وإذا كان الأعداء قتلوه فقد قتلوا غدهم، وفي الوقت نفسه أقاموا غده، والعلاقة بين أبي جهاد وأطفال الانتفاضة علاقة تواصل، فعلى كل وجه لتلك الحجارة تضحك نظرته الخالدة، ولنلاحظ تشابه الصورة نفسها في المقطعين الثالث والرابع، في المقطع الثالث يكون فتى الخبز على وجه الرغيف، وفي المقطع الرابع يكون وجه أبي جهاد على وجه الحجر.
وتبدو علاقة أنا المتكلم/ النواب بابي جهاد من خلال القصيدة، علاقة حب وإعجاب. كان أبو جهاد، هكذا تقول القصيدة، يقف أمام التسويات، ومظفر في أشعاره يصر على هذا الموقف، ويركز على البندقية والقتال. بزور مظفر جثمان الشهيد أبي جهاد، فيرى عريناً مضرجاً بالدماء ولنقرأ:
أمس زرت العرين المضرج بالدم
ما اكثر البصمات التي ترك المجرمون
ولكنْ مَنْ كسر الباب
مؤتمر دولي
أرى بصمتيْ راحتيه على الباب
الله أكبر من قلة الفهم!!!
قاتلنا دولي
وثم اجتهاد وحيد
هو البندقية
والفقر ينهض رغم اجتهاداته
أمة واحدة
ويقود المقطع الرابع إلى المقطع الذي يليه. لقد قتلوا أبا جهاد ليكونَ قتله فاتحة لمرحلة جديدة. ويأتي مظفر هنا، في المقطع الخامس، على الأطراف كلها التي أتى عليها في المقاطع الأربعة السابقة؛ يأتي على الجماهير التي لا تغلق الدمَ، ويأتي على السماسرة الدوليين وعلى مباغي الصغار، ويأتي على أبي جهاد ودمه، ويأتي على العدو الذي شخصه الشاعر جيداً. وكنا لاحظنا تصويره لكل طرف من هذه الأطراف. يقول مظفر:
لا نزال نتابع وجه المخطِطّ
نمسكُ بعضَ ملامحه
تتداخلُ،
ثمّ تضيع…
كأنّ المخطِطّ هذا عديدُ الوجوهِ
كثير التناقض
من زئبق ورمال بدون حدود
ولكن له ملمح لا يضيع
تقلبُه في الصور
أنا شخَّصتُه،
ويشكل كثير البساطة…
لا شيء فيه يميزه
غير خوف الحجر
وهنا نعود ونتساءل كيف سقطت هذه المقاطع الثلاث من الأعمال الكاملة، ومن المسؤول عن سقوطها؟ لعل النواب نفسه يوضح لنا هذا، فالنواب ما زال يتغنى بفلسطين، ولم يسقط عشرات المقاطع التي أتى فيها على تأييده للثورة والمقاتلين، تماماً كما أنه لم يسقط قصيدته " مرثية لأنهار من الحبر الجميل " التي رثى فيها ناجي العلي من أعماله الكاملة.
ملاحظة: يبدو أن مظفر اطلع على هذه الكتابة، وأشار في مقابلة معه نشرت في الزمان اللندية، في حزيران 2001، أنه ليس مسؤولاً عن طباعة أعماله الكاملة. وهكذا فالتغيير لا يعود إلى مظفر وإنما إلى الناشر.
المصادر
1- سعدي يوسف إلى ياسر عرفات، مجلة الكرمل( قبرص)،1983، ع7.
2- سعدي يوسف، ديوان سعدي يوسف، بيروت، 1988، مجلد2.
3- سعدي يوسف، الديوان الفلسطيني، 67-1993،عمان، 1996.
4- مظفر النواب، عرس الانتفاضة، القدس، دت.
5- مظفر النواب، الأعمال الشعرية الكاملة، لندن1996.
المراجع
1- بيير-مارك دو بيازي، النقد التكويني ( في باب مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، تأليف مجموعة من الباحثين، ترجمة د رضوان ظاظا، الكويت1997 ).
2- حاتم الصكر، كتابة الذات: دراسات في وقائعية الشعر، عمان،1994.
3- يوسف نوفل، ديوان الشعر العربي، القاهرة، 1977.