ن أعلام الفكر والأدب الذين لقوا الجحود في حياتهم، وبعد مماتهم في وطنهم، المفكر السياسي، الباحث الكاتب الجزائري: أحمد توفيق المدني (1889-1983). موهبة فذة تكونت ثقافياً بعصامية نادرة، ثم دخلت معترك الحياة الفكرية والأدبية من باب السياسة منذ سنة (1925)، لتكون إحدى القلاع الشامخة في الفكر الوطني والإصلاحي المقاوم..
في الإطار الصحفي، وفي خندق (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) ثم في صفوف (جبهة التحرير) بعد إعلان الكفاح المسلح (1954-1962) أداته قلمه ولسانه، ثم جهوده كوزير وسفير، وكباحث مؤلف، وكاتب متميز في المقالة الصحفية، والسياسية، والأدبية، فكان المسلم العربي الجزائري الأصيل بعمله، وبفكره، وبقلمه، منافحاً عن وطنه الصغير، وأمته الإسلامية الكبرى، ومنها العربية خصوصاً التي كانت تعاني أشكالاً من الاحتلالالأوروبي (الفرنسي) و(الإنكليزي) و (الإيطالي) و (الإسباني).
بعد الاحتلال الفرنسي في الجزائر (1830م) وفشل ثورة (1871م) انتقلت أسرة (أحمد توفيق المدني) إلى (تونس) هروباً من بطش المحتلين، حيث ولد، يوم (24 جمادى الثانية 1317هـ/1 نوفمبر 1889م) ودرس في جامعة (الزيتونة) مع جنوح إلى تكوين نفسه بنفسه، مما جعله ينغمس تدريجياً في الحياة الفكرية والسياسية، حتى أبعدته من أجل ذلك السلطات الفرنسية من (تونس) التي امتدّ إليها الاحتلال الفرنسي بعد (الجزائر) فكانت وجهته بلده الجزائر، التي حلّ بها سنة (1925) فوجد المناخ مهيأ سياسياً وفكرياً لاستقبال قلمه، وحيويته السياسية، فشرع يؤلف في تاريخ وطنه، ويكتب المقالات المختلفة في القضايا الوطنية والعربية والإسلامية عموماً، كما صار عضواً في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) فكان من أهمّ شخصياتها، ومن أبرز الأقلام في صحفها، خصوصاً بإسهامه الفاعل والمدوي في (جريدة البصائر) التي ترأس تحريرها، "حتى سنة (1956) حيث أمر بالسفر إلى (القاهرة) ليكون عضواً في الوفد الخارجي لـ (جبهة التحرير الوطني) ثم صار عضواً في الحكومة المؤقتة حتى الاستقلال، فأسندت إليه حينئذ وزارة الأوقات، كما عيّن بعد انقلاب (19 جوان 1965) سفيراً"(1) ووزيراً مفوضاً، في أكثر من بلد إسلامي.
بهذه الصفة انتهى نشاطه السياسي الذي بقي فيه بعيداً عن (بؤر) التآمر والمناورات الشيطانية، و (فبركة) المقالب في الصراع الرخيص الدامي على السلطة، و(التكالب) على منافعها، بكل الطرق التي لم تكن فيها يوماً واحدة شرعية؛ فكان من القلائل الذين لم تتلوث أيديهم بدماء الأبرياء، ولا جيوبهم بالمال الحرام، لكنّه خدم وطنه سياسياً، كوجه جاد مخلص في وزارته، أو في سفارته، فكان أيضاً من القلائل الذين حالوا دون الصورة السوداء الكاملة التي كان (يحمّضها) خصوصاً (غلمان الخارجية الجزائرية) بعبثهم واستهتارهم، وقلة جديتهم، وانعدام إخلاصهم في خدمة بلدهم (حكاماً) وحاشية، (وسفراء) وأتباعاً، اللهم إلا إخلاصهم في (الابتزاز) و (استغلال) المواقع التي اغتصبت اغتصاباً، على حساب كرامة وطن (شهيد) وأمة (مجاهدة) قدمت أغلى ثمن للحرية في القرن العشرين.
جاهد الرجل سياسياً وفكرياً، حتى كانت وفاته في خريف (1983) فانتهى (أحمد توفيق المدني) السياسي، وبقي المفكر والمؤلف، والأديب خالداً في وجدان أمته، بآرائه، ومواقفه، التي تعكسها آثاره المنشورة ككتب، وكعيون مقالات في صحف عربية وإسلامية، ومنها جزائرية، أهمّها (البصائر).
أوّل كتاب صدر له كان سنة (1931): (كتاب الجزائر) عن (الجزائر) تاريخاً، وجغرافيا، وأرضاً، وأعيد طبعه مرة ثانية سنة (1985) بعد وفاته "ومن آخر أعماله:
- هذه الجزائر، القاهرة، 1956 للتعريف بالجزائر أرضاً وتاريخاً وثورة.
- مذكرات الحاج أحمد شريف الزهار، تحقيق في سلسلة (ذخائر المغرب العربي) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980م.
- حياة كفاح (مذكرات) في ثلاثة أجزاء، 76-1982م"(2).
وكتابه هذا (حياة كفاح) زبدة المسيرة النضالية على مستوى الجسد والفكر، سياسياً متنقلاً عبر أقطار المعمورة، خصوصاً في البلاد العربية والإسلامية، ومفكّراً، ومؤلفاً وكاتباً تؤرقه قضايا أمته الإسلامية الكبرى، كما يبتهج لانتصاراتها، متطلعاً في كلّ ذلك -يومئذ- إلى خلاص وطنه من الاحتلال الفرنسي أولاً، ونجاته من مخالب (الضباع) والوحوش الكاسرة وهي تنقض عليه بعد الاستقلال فريسة أنهكتها مسيرة الصراع، ليتفرغ لنهشها كلّ أولئك الذين كانوا في راحة ينعمون، في الصالونات المخملية، أو في المنتزهات العالمية، والمنتجعات الخاصة، فتشبث بهم الصعاليك أنفسهم من أجل المشاركة في (الغنيمة) ونهش الضحية.
(حياة كفاح) بصفحاته التي تجاوزت الألف وثلاث مئة (بل هي بالضبط 1386 صفحة) الموزعة على ثلاثة أجزاء، يعطي صورة حية عن نضال رجل وعناده، وصمود أمة وغلبتها على مختلف الأعداء الخارجيين، حتى خذلها الخونة من الداخل، وفتّ في ساعدها المرتزقة والانتهازيون، وأشياعهم من (الطلقاء) الجدد بعد النصر المبين في (1962) الذي صودر من أمة منكوبة بأشباه رجال.
شمل (الجزء الأول) المرحلة من (1905) إلى (1925) أي من بداية نشاطه السياسي والفكري في (تونس) حتى دخوله (الجزائر) أما (الجزء الثاني) فيغطي مرحلة المد الوطني، والنضال القومي، بروحه الدينية، كما جسده الفكر الإصلاحي، من (1925) حتى (1954).
بهذا التاريخ تبدأ مرحلة جديدة في حياة (الجزائر) المسلمة العربية، عندما قررت مخاطبة المحتل باللغة التي لا يصغى إلا لها، لغة السلاح بعدما استنفدت (الحركة الوطنية) لغة السياسة، و (تملّق الحقوق) هبة من (استعمار) ليس في سجله غير جرائم البطش والتنكيل، وليس من المعتاد منه الإصغاء لصوت ضعيف، ولا لموقف هزيل، في غياب لغة الردع منطقاً وحيداً. هذه المرحلة (1954-1962م) كانت موضوع الجزء الثالث.
وقد أدركت الوفاة الرجل دون إتمامه (الجزء الرابع) عن مرحلة (ما بعد الاستقلال) في (سنة 1962) وهي فترة دقيقة خضعت فيها (الجزائر) لكثير من (السلخ) و(المسخ) و(الاستغلال) و(التآمر) المحبوك بإرادة استعمارية.
وبقدر ما في هذه المذكرات من حقائق: من انتصارات وانكسارات، ففيها الكثير أيضاً من نفس (أحمد توفيق) السياسي والمفكر، والكاتب، والأديب، كما تعبّر عن هذه الصفة بعض مقالاته التي نشرها سابقاً في الأربعينات والخمسينات وضمن بعضاً منها هذه (المذكرات) نفسها للمناسبات التي تستدرجها، كهذه المقالة التي تعكس جانباً من موهبته الأدبية، وقلمه الأنيق، وخياله الواسع، فضلاً عن تشبعه بالثقافة العربية الإسلامية.
هي تلك المقالة التي كتبها بعنوان: "ولسوف يعطيك ربّك فترضى" سنة (1956) بمناسبة عودة الملك المغربي (محمد الخامس) من منفاه تحت ضغط الحركة الوطنية المغربية على الحماية الفرنسية الاستعمارية في (المغرب) الأقصى. هي مقالة (سياسية-أدبية) بروح قومية، وحسّ نضالي متوهج جرى بها قلم أديب، في وصفه فرحة الشعب المغربي، وهو ما أسماه "الحقيقة المغربية الجديدة"(3) التي هي "شعب حي، ناهض، شاعر بحقوقه وبواجباته" فيصف -حين حلّ بالمغرب في المناسبة ضمن وفد جمعية العلماء- وهو في الطريق من (المطار) إلى (الرباط) الفرحة في العيون، فيقول: "والعيون الناظرة؟ هل رأيت العيون الناظرة؟
لقد كنت طوال الطريق أحدق النظر في أعين الذين يحيطون بنا وقد أطلقوا العنان لسرورهم ولحبورهم، فأول ما لاحظته، وأول صورة ارتسمت على صفحات قلبي فوق تلك الأرض التي صهرها النضال وطهرها الكفاح، هي تغير نظرات القوم. أي والله، لقد تغيرت حتى أصبحت تكاد ترى فيهم خلقاً جديداً نشأ في عالم الحياة أخرى"(4).
ليضيف بعد هذا بقليل: "إن لم تكن الليلة هي ليلة القدر التي بشرّ الله بها في القرآن المجيد، فهي ولا ريب ليلة القدر السياسي في المغرب العربي وقد فصل الله بها بين عهدين: عهد الاستعمار الذي مات، وعهد التحرير الرافع الرايات"(5).
وكثيراً ما كانت جولات (المدني) ورحلاته عامل حكم عن مشاهدة، ومصدر إبداع في وصف، فقد قال عن الشعب الأندونيسي المسلم: إنه "في مجموعة شعب لطيف، مسالم وديع جداً، لكنه إذا تحمس ثار، وإذا ثار فعل المعجزات، أما إسلامه فيكاد يكون سطحياً... يخشى على هذا الإسلام مع طول الزمن"(6) كما يرسم صورتين في زيارتين إلى (العراق)، الأولى قبل ثورة 14 يوليو 1958، فيتساءل "أين هي بقايا مدينة الرافدين؟ لم أجد هنالك... داراً ولا دياراً... إن شعبنا من العمالقة يحكمه ويرديه جماعة من الأقزام، أي والله، شعب العراق شعب من العمالقة، هم العرب حقاً، هم الماجدون صدقاً، هم الأباة سجية، فكيف يا ترى خضع هذا الشعب لأمثال نوري السعيد، وعبد الله، وفيصل، ومن خلفهم من العناكب والحشرات"(7) أما الثانية فبعد الثورة بعدما حدث (الزلزال)، كما يصف الكاتب ذلك في الزيارة الثانية، حدث "على حين غفلة والناس نيام، زلزلت الأرض في بغداد زلزالاً مروعاً قاتلاً، يوم 14 يوليو 1958 فهوى الظالمون كجلمود صخر حطه السيل من عل"(8).
لكن الكاتب يصف الوضع وصفاً سلبياً حين يشخصه وضعاً فوضوياً، عندما وصل (بغداد) قادماً من (دمشق) هكذا "وصلنا، وذهلنا، واندهشنا، وطار صوابنا، لا أبالغ والله! كان المطار خالياً تماماً، كان قفراً بلقعاً: لا مدير، ولا طيار، ولا مرشد، ولا كاتب، ولا عامل!.
حطت الطائرة بجهودها الخاصة، ونزلنا، فجاءنا من بعيد جماعة من الجند يرقصون ويهزجون، يعربدون، دون سوء، ويصيحون بأصوات مختلفة: دار الخائن، فيجيبهم آخرون على الفور... محروقة! وخرجنا من حلبة الطيران إلى الطريق العام، دون أن نرى أحداً، أو يعترضنا أحد، وعثرنا على سيارة أجرة أخذتنا إلى فندق بغداد، وكاد أن يكون خالياً. ثم عثرنا على الحلقة التي هدتنا إلى بقية السلسلة، وأخذ القوم يتوافدون علينا تباعاً وفيهم من جاءنا بعظم من ساق نوري السعيد وفيهم من جاءنا -أي والله- بقطعة من لحم عبد الإله، مملحة مقددة، كأننا كنا من آكلي لحوم البشر... لا، أما الثورة، فنعم، وأما الانتقام من الظالمين، فيا حبذا، لكن ليس إلى هذه الدرجة من الوحشية والشناعة"(9).
صورة مؤسفة تمحو صورة أخرى سليمة، ليرتسم في ذهن القارئ أكثر من شيء عن سلوك، وعن محيط، وعن نمط حياة.
(أحمد توفيق المدني) مفكر عربي: إسلامي، ووطني، وكاتب وأديب، نهض بجهود فكرية وسياسية مختلفة منذ (1925) حتى (1983) وترك آثاراً ناطقة بحبه أمته، كما هي ناطقة بأصالته العربية الإسلامية، لكن الجحود شمله، لأنه من رعيل شهم أبي، يرفض التآمر والدجل السياسي، كما يرفض العيش في مستنقع التزلّف والنفاق، وبؤر المقالب في محيط بات موبوءاً. اتمنى ردودكم